مقدمة: لا يغيب عن أي باحث في هذه المعمورة - لدى حديثه عن النظام الرأسمالي العالمي وعلائقه المركبة مع السلطة والإمبريالية وفكرة المركز والهامش- أن يلوذ بأفكار المفكر والمؤرخ وعالم الاجتماع الألمعي إمانويل ولورستين ليتسنى له فهم هذا المركب المعقد من العلاقات بين تراكم رأس المال العالمي وميزان السلطة العالمية في تجلياته التوسعية والاستعمارية في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وأوروبا الصناعية والصين والهند وآسيا المعاصرة وامتداد هذه العلاقة تاريخياً إلى ساحة العالم الثالث، والذي يرفض ولورستين تسميته بناء على هذه المركزية الغربية الإمبريالية، ويعتبره جزء عضوياً وتكاملياً للنظام العالمي الرأسمالي والجيوسياسي. ولقد شغل ولورستين مناصب كونية في غاية الأهمية منها: رئيس جمعية دراسات علم الاجتماع العالمية ISA)) والتي تضم 167 دولة من كل أنحاء العالم، وتعنى بكل التحديات الكونية المتعلقة بالنظام العالمي الرأسمالي وعلاقته بتطور البنية الاجتماعية في سياق الأوروبية المركزية وتعالقها العضوي مع دول الهامش. ومن أهم مؤلفاته التي لاقت صدى كونياً غير مسبوق: النظام العالمي المعاصر، الرأسمالية التاريخية، أفول القوة الأمريكية، الولايات الأمريكية والعالم الفوضوي والكتاب المترجم " العالمية الأوروبية: خطاب السلطة.
ولا يقل ولورستين، والذي قلما تجد له عملاً مترجماً للعربية لقصور في المشهد الثقافي وحركة الترجمة في الوطن العربي، لا يقل أهمية عن كبار علماء الأنثروبولوجيا وعلم الجغرافيا والنظام العالمي الرأسمالي أمثال آدام سميث وديفيد هارفي ونعوم تشومسكي وإدوارد سعيد، رغم التباين الكبير في منهجياتهم العلمية، إلا أن صاحبنا يمتلك منهجاً علمياً جامعاً ومانعاً يتكامل مع كل ما قدموه المذكورين من نظريات مفصلية، أعادت قراءة كثير من العلائق المركبة مع خطاب السلطة العالمي وتفاعله الكوني مع البنى الاجتماعية وتفاعلاتها مع تراكم رأس المال، وعلاقتها الدياليكتيكية مع القوى العاملة في دول الهامش أو شبه الهامش حسب تسمية ولورستين. ومن الأسئلة المفصلية التي انبرى لها: كيف يمكن فهم الرأسمالية العالمية المعاصرة كنظام اجتماعي في الغرب بدء من القرن السادس عشر وحتى عصر ما بعد الحداثة؟ وما علاقة هذا النظام العالمي في إيجاد أنساق اجتماعية وثقافية مهيمنة تتعالق مع آيدولوجيات الليبرالية الجديدة والليبرالية الديمقراطية والاستشراق وعلاقته التاريخية والفكرية بالتناقضات المرعبة التي تحكم السوق الحرة وما اصطلح عليه ولورستين " العالمية الأوروبية " والتي هي موضوع هذا الكتاب.
ويبدو أن كتاب "العالمية الاوروبية" يعد كتاباً مفصلياً وتأسيسياً لفهم خطاب السلطة الإمبريالي والرأسمالي من خلال شبكة العلاقات الإجتماعية المعقدة التي تفرزها التطورات والتحديات العالمية في تفاعلاتها المتذبذبة بين مركز أوروبي طاعن في مركزيته وامتداده إلى الوراء حتى نظام الإقطاع في القرن السادس عشر إن لم يكن قبل ذلك، وبين هامش وشبه هامش تم اختزاله في الخطاب الغربي في إطار العالم الثالث أو الدول النامية، حيث صار في مرحلة ما بعد الإستعمار سوقاً رائجة لبضاعة الغرب الإستعماري ومصدراً أساسياً للأيدي العاملة والمواد الأولية والتي يمتلك الغربي اليد الطولى في إعادة تصنيعها وإجبار دول الهامش على شرائها بأسعار تنافسية بل وتلقف كل النظريات الغربية بكامل قداستها لتكون أنموذجاً أحادياً لفهم كل هذه الفوضى العالمية وخطاب السلطة. وما نراه في خضم أفول هذه المركزية الغربية والاروبية من الربيع العربي يجعلنا نعيد النظر في مقولة المفكر العالمي وأسـتاذ جامعة كولومبيا حميد دباشي: " الغرب لم يعد المركز بعد الربيع العربي". وما يطرحه كتاب وولورستاين من تفكيك وتحليل للعالمية الاوروبية يجعلنا نعيد النظر في كل ما يطرح من نظريات نهاية التاريخ لفوكوياما أو حتى نظرية المتبجح هنتغتون التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في صراع الحضارات الذي لم يكن إلا جزء من مشروع الإمبريالية الكبرى والمركزية الأوروبية لإذكاء النظام الرأسمالي والليبرالي الديمقراطية في سيطرته على مراكز القوى. والسؤال الأكثر تحدياً في هذا السياق هو: ما هو النظام العالمي البديل عن الرأسمالية العالمية بعد خمسة عقود؟ وهل هنالك إرهاصات جلية لنهاية النظام الرأسمالي المعاصر في ظل كل ما يحدث من أفول للمركزية الأمريكية وبروز حركات التحرر العربي وكل التقلبات الإجتماعية والجيوسياسية التي تعصف بالعالم من شرقه إلى غربه.
سياسات العالمية المعاصرة
تعج العناوين الرئيسة في الصحف العالمية بالتعابير الدارجة كالمعتاد: القاعدة والعراق وكوسوفو ورواندا ومعسكرات الجولاك الروسية والعولمة والإرهاب. إن هذه المفردات تذكي صوراً مطردة لدى القراء والتي تم تشكيلها لدينا من خلال قادتنا السياسيين ومحللي المشهد الكوني، وما يتجلى للكثيرين هو أن العالم اليوم هو صراع جوهري بين قوى الخير والشر. كلنا بلا شك نتوق أن نحسب على معسكر الخير، وفي الوقت نفسه كثيراً ما نجادل حكمة بعض السياسات لمحاربة الشر، وفي كثير من الأحايين لا يكون لدينا أدنى شك في تحديد دوافع الشر وبواعثه.
إن خطاب قادة العالم الأوروبي على وجه الخصوص - و هم ليسوا الوحيدون طبعاً- جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة وبريطانيا وتيار الإعلام المتغول ومفكريهم المؤسسين، هو خطاب مدجج بالنزوع نحو العالمية كمبرر جوهري لسياساتهم. يحدث هذا غالباً عندما يتحدثون عن سياساتهم المرهونة بالآخرين- أي الدول غير الأوروبية، وسكان العالم الأكثر فقراً والأقل تنمية- وعادة ما تبدو هذه النبرة واقعية ومتغطرسة ومتبجحة في آن، لكن هذه السياسات غالباً ما يتم تقديمها كحقائق وقيم عالمية جلية.
هنالك ثلاثة متغيرات لمثل هذه النزعة العالمية. يكمن المتغير الأول في جدلية مفادها أن السياسات المتبعة يتم التوسل بها من قبل قادة الإتحاد الأوروبي العالمي دفاعاً عن " حقوق الإنسان" ولإذكاء ما يسمى " بالديمقراطية". أما المتغير الثاني فيتجلى في موال صراع الحضارات، والذي من خلاله يفترض دوماً أن " الحضارة الغربية" متفوقة على الحضارات " الأخرى" لأنها- أي الأولى- الوحيدة التي أصبحت تستند على القيم والحقائق العالمية. وفيما يخص المتغير الثالث، فيكمن في ترسيخ الحقائق العلمية للسوق ولمفهوم مفاده "عدم وجود بديل" أمام الحكومات إلا الإذعان والرضوخ لإقتصاديات الليبرالية الجديدة.
لو قرأنا في السنوات المنصرمة أي خطاب لجورج بوش الإبن أو توني بلير ( وفعلياً خطابات نظرائهم السابقين)، أو أي من أتباعهم، سنجد تكراراً مطرداً لهذه المتغيرات الثلاثة. إنها ليست مواضيع جديدة على أي حال، فهذه المتغيرات طاعنة في القدم، والتي بدورها ظلت تشكل الخطاب الجوهري للسلطة عبر تاريخ النظام العالمي الحديث منذ القرن السادس عشر على أقل تقدير. لا بد من وجود تاريخ لهذا الخطاب، وهنالك تاريخ للمعارضة لمثل هذا الخطاب، وفي النهاية، ظل الجدل يدور حول ماهية ما نعنيه بالعالمية. لا بد لي هنا من توضيح أن عالمية المستبد كانت عالمية جزئية ومشوهة وهي ما أصطلح عليها " بالعالمية الأوروبية" لأنه تم تأصيلها قدماً من قبل قادة الاتحاد الأوروبي ومفكريهم في خضم لهاثهم خلف تحقيق مصالح الطبقات السائدة للنظام العالمي الجديد. وعلى أي حال، لا بد لي هنا من مناقشة الأساليب التي قد يتسنى لنا من خلالها تحقيق عالمية أصيلة بما أصطلح عليه "بالعالمية الكونية".
إن الصراع بين العالمية الأوروبية والعالمية الكونية هو الصراع الآيدولوجي الجوهري للعالم المعاصر، وستكون مخرجاته الدافع الرئيسي لتشكيل مستقبل النظام العالمي الذي نطل عليه في الخمسين سنة القادمة. لهذا لا يمكن تجنب الإنحياز لطرف ما، ولا يمكن التقهقر لصالح موقف جزئي إقليمي بعينه، والذي من خلاله لا نألوا جهداً في تبرير جدوى كل فكرة جزئية يتم تبنيها بالتساوي على هذه البسيطة. وفيما يخص الإقليمية فهي لا تعدو عن كونها تقهقر خفي لقوى العالمية الاوروبية وللمهيمن في وقتنا الراهن، وأصحاب هذه القوى يسعون لتوطيد نظامهم غير الديمقراطي وغير المتكافئ. ولو خير لنا إيجاد بديل للنظام العالمي الموجود، فإنه يتعين علينا اجتراح وسيلة لإعلان ومأسسة عالمية كونية – عالمية ممكنة التطبيق والتي لا تتحقق بين عشية وضحاها.
إن مفاهبم حقوق الإنسان والديمقراطية وتفوق الحضارة الغربية هي مفاهيم يتم تسويقها لنا كأفكار مثبتة من تلقائها لأنها تكتسي بالقيم والحقائق العالمية، وبسبب حتمية الخضوع " للسوق". إنها أفكار مركبة تتطلب سبر الأغوار عن كثب ويجب تصفية ما يعلق بها من متغيرات لا تسمن ولا تغني من جوع، لنتمكن نحن من تقييمها بصورة جادة وتسخيرها لنفع الجميع وليس لنخبة بعينها. وإن فهم الماهية التي تم من خلالها تأصيل هذه الأفكار بصورة جذرية ومعرفة من قام بهذا وغاية هذا التأصيل لجزء أساسي من هذه المهمة التقييمية، و هي المهمة التي سخر هذا الكتاب من أجلها.
لمن الحق في التدخل؟ القيم العالمية في مجابهة البربرية
لقد أصبح تاريخ النظام العالمي الجديد بمجمله تاريخاً لتغول الحكومات الأوروبية وشعوبهاعلى بقية هذا العالم. لقد ظل هذا جزء جوهرياً لبناء الإقتصاد العالمي الرأسمالي، ولقد تضمن هذا التوسع الذي استشرى في معظم أصقاع هذه البسيطة، اجتياحاً عسكرياً واستغلالاً اقتصادياً وجوراً عظيماً. فهؤلاء الذين يقودون هذا التوسع ويجنون ثماره غالباً ما يقدمون هذا التوسع لأنفسهم وللعالم بصورة مبررة تستند على أساس المصلحة والخير الذي قد يجلبه مثل هذا التوسع لشعوب العالم. والأطروحة المعتادة تكمن في أن هذا التوسع قد نشر ما يسمى على مستويات متعددة بالحضارة والنمو الاقتصادي والتقدم أو التنمية. لقد تم تأصيل كل هذه المفردات وإذكاؤها كتعابير لقيم عالمية تجذرت فيما أصطلح عليه غالباً بالقانون الطبيعي، واللغة المستخدمة لوصف هذه الصيرورة غالباً ما تكون دينية، أو يتم اشتقاقها من منظور كوني وفلسفي علماني.
ومما لاشك فيه أن الحقيقة الإجتماعية لما يحدث صارت أقل حضوراً من الصورة التي يتم عرضها علينا من قبل تبريرات المفكرين المتعددة. ويتم التعبير عن البون الشاسع بين هذه الحقيقة والتبرير ويتمثل هذا البون بصورة متقنة من خلال وسائل متنوعة، ومن خلال أولئك الذين يدفعون أبهظ الأثمان من حيواتهم الشخصية والجمعية. والجدير بالذكر أن كثيراً من المثقفين الذين تعود أصولهم للطبقات المهيمنة قد لاحظوا هذا البون الشاسع المذكور. ونتيجة لذلك تضمن تاريخ النظام العالمي المعاصر جدلاً مطرداً فيما يخص أخلاقيات هذا النظام نفسه. ومن أكثر هذه المماحكات أهمية وأولها تلك التي كانت تثار في مرحلة مبكرة وضمن سياق الغزو الإسباني للأمريكيتين في القرن السادس عشر.
ففي عام 1492، قام كريستوفر كولومبوس بعد رحلة ماروثونية طويلة جداً وطاعنة في المشقة عبر المحيط الأطلسي والطريق المؤدي إلى الصين ، حيث حطت سفنه على شواطئ البحر الكاريبي. لم يعثر على الصين، لكنه عثر على أرض لم تكن في الحسبان وهي ما نسميه بالأمريكيتين في عصرنا الحالي. لقد قام بعض الإسبان بملاحقته في رحلته، وخلال عقود معدودات قام الغزاة الإسبان بتدمير البنية السياسية لأكبر امبراطوريتين في أمريكا: وهما الأزتيك والأنكا. ثم على الفور قام فريق متنوع الأطياف من أتباع هؤلاء الغزاة الإسبان بإدعاء ملكية الأراضي وتسخير اليد العاملة من سكان هذه الأراضي بالقوة والعنف من أجل الاستفادة من هذه الأراضي المنتزعة. وخلال نصف قرن من الزمن تم إبادة جزء كبير من هؤلاء السكان الأصليين والذين دمروا عن بكرة أبيهم إما عن طريق المرض أوسلاح الرجل الأبيض. وما زال الجدل قائماً فيما يخص عدد هؤلاء المجتثين من أراضيهم في القرن السادس عشر وما تلا عام 1945، لكن غالبية الباحثين متفقون على أن الخسارة كانت فادحة ومساحة الأرض التي اغتصبت كانت كبيرة جداً.
ترجمة: تيسير أبو عودة